بقلم : أميمة بلفيتوري وأمل خشتالي
بعد حربٍ دامية استمرّت لعامين في قطاع غزّة شنّها الاحتلال الإسرائيلي، أعلنت عدّة دول غربيّة اعترافها الرسمي بدولة فلسطين.وقد اعتبرتها بعض وسائل الإعلام خطوة تاريخيّة ونقطة تحوّل في مسار القضيّة الفلسطينيّة، بينما رأى فيها آخرون مجرّد إجراء رمزي لا يغيّر شيئًا في الواقع الميداني.
وتنوّعت السرديّات الإعلاميّة في تناول هذا الحدث بين المنصّات الغربيّة والعربيّة، لتكشف عن اختلافٍ واضح في الزوايا والتوجّهات التي صاغت من خلالها كل جهة روايتها الخاصة.
السردية الغربية: اعتراف حذر متأخر
حين أعلنت دول أوروبية مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج اعترافها
بدولة فلسطين، بدا المشهد الإعلامي الغربي متردّدًا بين الاحتفاء الرمزي والتحفظ السياس.
فقد تناولت كبرى وسائل الإعلام الغربي الحدث من زاوية
أقرب إلى الموقف الدبلوماسي أكثر من كونه تحوّلًا أخلاقيًا أو إنسانيًا. إذ مثّلت عناوين المقالات والأخبار المنشورة حول الحدث التّي تضمنت عبارات كـ “خطوة رمزية قد تؤثر على عملية السلام” أو “اعتراف لن يغيّر شيئًا في الميدان”، تقزيما لوسائل الإعلام الغربي للفعل السياسي في صالح القضية الفلسطينية.
ورغم أن هذه الوسائل أقرّت ضمنيًا بتزايد التعاطف العالمي مع الفلسطينيين بعد حرب غزة
فإنها نقلت الحدث في إطار “رد فعل” على الأزمة الإنسانية لا كتصحيح لمسار تاريخي أو
اعتراف بحق تقرير المصير. الحرب التي هزّت الضمير العالمي، ودفع الغزيون ثمنها بالدم
والدمار، كشفت حدود “الحياد الغربي” الذي يتفاخر به الإعلام الأوروبي والأمريكي، إذ
لم يبدأ هذا النقاش الجدي حول الاعتراف بفلسطين إلا بعد أن أصبحت صور المجازر مستحيلة
الإخفاء.
فخلال الحرب على غزة، مارست عدد من
وسائل الإعلام الغربية تضليلًا منهجيًا في التغطية
حيث استخدمت مصطلحات تخفف وطأة ما يجري، فبدل “قصف المدنيين”، قالت “ضربات إسرائيلية
ضد حماس”، وبدل “حصار”، قالت “عمليات أمنية”. كما امتنعت في كثير من الحالات عن بثّ
صور الدمار أو الجثث، مبرّرة ذلك بـ“حساسية المشاهد”، في حين لم تُبدِ التحفظ ذاته
عند تغطية الحروب في أوكرانيا. هذا الانحياز اللغوي والبصري خلق رواية مشوهة للرأي
العام الغربي، لا ترى الفلسطينيين كضحايا بل كجزء من “صراع معقد”، حتى جاء الاعتراف
الأوروبي ليبدو أشبه بمحاولة لتجميل الموقف الغربي المتأخر أمام حجم المأساة.
وهكذا فإن السردية الغربية لا تنبع من تحوّل جذري في الوعي، بقدر ما تعكس ضغط الرأي
العام وتراجع ثقة الجمهور في مصداقية الإعلام الرسمي، فالاعتراف بدولة فلسطين في الغرب
وفق هذه القراءة، لم يكن ثمرة قناعة بل نتيجة أزمة أخلاقية كشفتها غزة على شاشاتهم.
السردية العربية : بين التعاطف والرمزية
في المقابل تراوحت التغطية العربية حول الحرب على غزّة بين تنوّع المضامين والزوايا والتناقض في الرّسائل الإعلامية
فقد تعاملت كلّ من قناة الجزيرة القطرية وبعض من وسائل الإعلام الفلسطينية المحسوبة على السلطة وأخرى مستقلة، مع الاعتراف الأوروبي
على أنه خطوة رمزية لكنها تاريخية، مقدِّمًا إياها في سياق نهوض عالمي متأخر نحو العدالة.
فقد ركزت قناة الجزيرة على الرمزية السياسية، لكنها لم تُغفل تحليل الخلفيات الأوروبية
وضغوط الرأي العام التي دفعت نحو القرار. أما وسائل إعلام عربية أخرى خصوصًا القنوات
الرسمية فقد تناولت الحدث بلغة دبلوماسية محافظة، معتبرة الاعتراف “إشارة إيجابية نحو
حلّ الدولتين” دون التحدث في عمق الموقف الغربي أو خلفياته الأخلاقية. حيث برزت في
ذلك قنوات خليجية كقناة العربية التي تحاول التركيز على إيجابية الموقف وفي رواية موجهة حول حلّ الدّولتين
ويرى مراقبون للمشهد الإعلامي العربي بروز اختلاف واضح في زوايا تناول موضوع الحرب على غزّة مع تنوّع توجهات وسائل الاعلام التحريرية إضافة إلى بروز صراع في الروايات وتضارب في السرديات.
بين السردية العربية والغربية : الاختلاف والصراع
تشير عديد المصادر إلى أنّ الخطابين الإعلام الغربي قد ألبس الحرب على غزّة ثوب البرود في التعامل بينما صاغ الإعلام العربي أحداثها المؤلمة بلغة التعاطف. يصف الغرب الاعتراف
بأنه “إجراء رمزي”، بينما يراه العرب “نصرًا أخلاقيًا”. فالفرق لا يكمن فقط في اللغة المستخدمة، بل
في زاوية النظر إلى فلسطين ذاتها: إذ تمثل فلسطين للغرب ملفا دبلوماسيا معقّدا، أمّا في العالم
العربي، ففلسطين لا تعدو أن تكون قضية عربية.شائكة
ورغم أنّ هذا الاعتراف لن يغيّر شيئًا كبيرًا على أرض الواقع، إلاّ أنّ زاوية نقل الحدث
من البرود كما فعل الإعلام الغربي الذي يظهر وكأنه انحياز، أو نقله كتعاطف واحتفاء
من الجانب العربي، جاء نتيجة لغياب طويل للقضية الفلسطينية من على طاولة العالم الغربي
بصفة عامة.
إنّه لمن الجليّ أنّ الجدل حول الاعتراف بدولة فلسطين لا يتعلق فقط بالقرارات السياسية أو البيانات
الدبلوماسية، بل أيضًا بمن يروي الحكاية وكيف تُروى. فكُل رواية تُروى بها القصة لها
توجه وسردية معينة. تسعى السردية الغربية للإعلام الاوروبي والامريكي بخاصة إلى طرح خطابها كسردية موضوعية حول الأحداث في غزّة، لكنّ المتابع لخطاب هذه الوسائل الإعلامية لا ينفك يلاحظ انحيازا واضحا للروايات الاسرائيلية والمواقف القريبة من رؤيتها السياسية والعسكرية للحرب. أما الإعلام العربي يبقى رغم التباين الواضح في السرديات فإنّ أغلب مضامينه الإعلامية تبقى مصطفة إلى الرواية الإنسانية ومتوائمة مع رمزية القضية الفلسطينية في المخيال الجمعيّ العربيّ باعتبارها أمّ القضايا العربية
شاهد التقرير التالي :
Commentaires
Enregistrer un commentaire